تقديم
نجحت الاحتجاجات السلمية أخيراً وبعد صراع طويل في الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير، وتشكيل مجلس سيادي وحكومة مدنية، وذلك بعدما أعلن قائد الجيش عوض بن عوف، يوم 11 أبريل، عن عزل البشير واحتجازه في مكان آمن.ووسط تفاؤل المواطنين بالمستقبل، أصدر المجلس العسكري الانتقالي، يوم 20 أغسطس، مرسوما بتشكيل المجلس السيادي الذي سيقود المرحلة الانتقالية في السودان.ولم تكن الاطاحة بعمر البشير نهاية مطاف لعهد من الجرائم بحق المواطنين والانتهاكات للحق في حرية الرأي والتعبير، حيث استمرت الجرائم بعد سقوط البشير، حتى التوقيع النهائي على وثيقة الإعلان الدستوري في 17 أغسطس الماضي.
وكانت المظاهرات والفعاليات الاحتجاجية قد اندلعت في عدد من المدن السودانية يوم 19 ديسمبر 2018، للمطالبة بإنهاء الأوضاع المعيشية الصعبة، ثم ما لبثت أن تطورت إلى المطالبة بتنحي البشير وإسقاط نظامه.وواجه البشير هذه اﻻحتجاجات باعتقال العشرات من قادة المعارضة والصحفيين والمتظاهرين، وفرض الرقابة على الصحف. وأعلن يوم 22 فبراير، حالة الطوارئ لمدة عام في جميع أنحاء البلاد، وحل حكومة الحوار الوطني وحكومات الولايات، وعين حكاما عسكريين لإدارة تلك الولايات.وفي المقابل رفض آلاف السودانيين قرارات البشير وقرروا الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش في العاصمة الخرطوم، يوم 6 أبريل، واستمر هذا الاعتصام حتى بعد سقوط البشير يوم 11 أبريل، حيث قرر المحتجون الاستمرار في الاعتصام، حتى تورطت بعض قيادات المجلس العسكري الانتقالي، يوم 3 يونيو، في فض الاعتصام باستخدام العنف وهو الأمر الذي راح ضحيته نحو 87 قتيل، و168 جريح.
أولا: التطور التشريعي والقانوني
ينقسم التطور التشريعي في السودان خلال عام 2019، إلى قسمين أحدهما قبل شهر أغسطس، ويتميز بالعمل على خنق مختلف مظاهر التعبير عن الرأي؛ فقد أقر المجلس الوطني السوداني (الغرفة الأولى للبرلمان)، يوم 11 مارس، العمل بقانون الطوارئ لمدة 6 أشهر.
وكان الرئيس السوداني عمر البشير قد أعلن حالة الطوارئ بجميع ولايات السودان يوم 22 فبراير بالمرسوم الجمهوري رقم 6 لسنة 2019.
أما القسم الآخر من عام 2019، فيأتي بعد شهر أغسطس، ويسوده التفاؤل والرغبة في إقرار تشريعات تدعم حرية الرأي والتعبير، بعد تشكيل المجلس السيادي والحكومة المدنية، حيث أعلن فيصل محمد صالح، يوم 6 سبتمبر، في أول تصريحاته عقب توليه منصب وزير الإعلام والثقافة في الحكومة السودانية الجديدة، إنه سيعمل على إلغاء وتعديل كافة القوانين المقيدة لحرية الصحافة في البلاد.
ثانيا: الانتهاكات التي نالت من حرية التعبير
المنع من العمل
استخدمت السلطات السودانية المنع من العمل لقمع حرية التعبير؛فعلى سبيل المثال قامت أجهزة الأمن، يوم 31 مايو، بإغلاق مكتب شبكة الجزيرة في الخرطوم، وسحب تراخيص العمل، ومصادرة أجهزة البث، دون إعطاء أسباب. واستمر إغلاق القناة حتى يوم 16 أغسطس حينما أبلغ المجلس العسكري الانتقالي، مدير مكتب الجزيرة بسماح المجلس بإعادة فتح المكتب.
كماأوقفت السلطات السودانية، ﺍﻟﻤﺬﻳﻌﺔﺑﻘﺴﻢﺍﻷﺧﺒﺎﺭﻓﻲﺍﻹﺫﺍﻋﺔﺍﻟﻘﻮﻣﻴﺔ، ﻫﺒﺔﻣﻜﺎﻭﻱ، عن العمل يوم 2 مايو، بعد مطالبتها عبر صفحتها على موقع “فيسبوك” بإيقاف سيطرة رموز حكم البشير على مواقع قيادة الإعلام في البلاد.
وانحرفت السلطة في استخدام صلاحياتها منتهكة الحق في التجمع السلمي حيث منعت السلطات السودانية يوم 2 مارس، إقامة ندوة مخصصة لذكرى الضحايا والتضامن مع الجرحى والنازحين والمحبوسين تعسفيا، كان من المفترض أن تقام بدار الأمة ويشارك فيها القوى السياسية والمدنية المشاركة في التظاهرات السودانية.
كما منعت السلطات السودانية يوم 6 مارس، مؤتمرا صحفيا لرئيس “حزب المؤتمر” المعارض، عمر الدقير، بعد الإفراج عنه على خلفية تظاهرات سلمية ضد تمديد حكم عمر البشير.
الحبس
حاولت أجهزة الأمن السودانية تغييب الصحفيين عن مواقع الأحداث باستخدام العديد من الوسائل من بينها الحبس والاعتقال، فعلى سبيل المثال قامت السلطات السودانية، يوم 2 يونيو، باعتقال الصحفية الفرنسية غينايللونوار، في مدينة عطبرة، أثناء تغطية الأحداث هناك، كما اعتقل جهاز الأمن والمخابرات عثمان ميرغني رئيس تحرير صحيفة التيار، يوم 22 فبراير 2019، على خلفية تعليق له في القنوات الفضائية حول القرارات التي أصدرها الرئيس السوداني.
كما اعتقلت أجهزة الأمن أيضاً رئيس اتحاد الصحفيين السودانيين، الصادق الرزيقي، يوم 24 يوليو، ضمن حملة اعتقالات طالت رموزًا من الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني، واستمر الرزيقي، رهن الاعتقال حتى جرى الإفراج عنه يوم 29 يوليو.
واعتقلت أجهزة الأمن الصحفية، درة قمبو، يوم 10 فبراير، من سيارتها عند إشارة المرور بجوار سجن أم درمان للنساء أثناء تغطيتها للمظاهرات.
ولم يقتصر استخدام الحبس على الصحفيين بل شمل أيضا القيادات السياسية،فبعد لقاء مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، خلال زيارته للخرطوم في محاولة للتوسط بين طرفي النزاع في السودان، اعتقلت قوات الأمن ياسر عرمان نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، من منزله في الخرطوم يوم 5 يونيو، كما اعتقلت أيضا القياديين في حركة الاحتجاج محمد، واسماعيل جلاب، يومي 7، 8 يونيو، بعد لقائهما مع آبي أحمد.
وطال الحبس والاعتقال المدافعين عن حقوق الإنسان، حيث اعتقلت أجهزة الأمن يوم 5 مارس 2019، المدافعة عن حقوق الإنسان منال الأول، من منزلها، على خلفية نشاطها في حركات اجتماعية مختلفة، وأفرج عنها جهاز الأمن مع عدد من المعتقلات، يوم السبت، 9 مارس بأمر من الرئيس السوداني عمر البشير بمناسبة اليوم العالمي للمرأة.
المحاكمة
استخدمت السلطات السودانية القضاء لقمع الصحفيين والمتظاهرين،فعلى سبيل المثال قضت محكمة طوارئ الامتداد بالخرطوم، يوم السبت 9 مارس، بحبس تسع نساء، لمدة شهر لكل منهن، مع عقوبة الجلد عشرين جلدة، على خلفية مشاركتهن في التظاهرات التي جرت في العاصمة السودانية يوم 7 مارس، ولكن القاضي أوقف تنفيذ حكم الجلد على النساء التسع تحت ضغط واعتراض المحامين لحين صدور قرار الاستئناف، وفي 12 مارس أمرت محكمة الاستئناف بالإفراج الفوري عنهن، قائلة إنهن قضين في السجن فترة كافية.
كما أصدرت محكمة الطوارئ يوم 10 مارس حكما ضد مريم الصادق المهدي، نائبة رئيس حزب الأمة القومي وابنة الصادق المهدي، زعيم المعارضة ورئيس وزراء السودان الأسبق بالاعتقال لمدة أسبوع بتهمة المشاركة في المظاهرات.
وفيما له علاقة باستخدام القضاء لقمع حرية التعبير، أمرت محكمة الصحافة والمطبوعات، يوم 5 سبتمبر، بإلقاء القبض على الصحفية سهير عبد الرحيم، لتغيّبها عن جلستين لمحاكمتهابناء على البلاغ المقدم ضدها من المجلس العسكري الذي اتهمها فيه بالإساءة إلى المجلس من خلال مقال نشر بصحيفة الانتباهة تحت عنوان “ماذا نكتب؟”
الحجب
قطعت السلطات السودانية خطوط اتصال الإنترنت الأرضية في السودان منذ الثانية عشر ظُهر 10 يونيو، (اليوم الثاني للعصيان المدني الذي دعا إليه قادة الاحتجاج)، وذلك بعد أسبوع من قطعها عن الهواتف المحمولة، ليصبح الانقطاع (شِبه كامل) في البلاد.وقال المتحدث باسم المجلس العسكري الانتقالي شمس الدين كباشي، يوم 11 يونيو، إن خدمة الإنترنت لن تعود في الوقت الحالي زاعماً أن الانترنت “مهدد للأمن القومي”.
الترهيب
استخدمت السلطة السودانية التهديد لمنع حرية الكلام. ولم يقتصر الأمر على المواطنين السودانيين، بل امتد ليصل إلى السفير البريطاني، عرفان صديق، حيث استدعت وزارة الخارجية السودانية السفير البريطاني بالخرطوم، يوم 12 يونيو، للاحتجاج على تغريدات كتبها، بعد قيام قوات الأمن السودانية بفض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش، قال فيها: ”لا مبرر لمثل هذا الهجوم. يجب أن يتوقف ذلك الآن.“ وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية إن التغريدات المتكررة للسفير تتعارض مع ”الأعراف الدبلوماسية الراسخة“.
الاعتداءات
استخدم الرئيس السوداني عمر البشير والمجلس العسكري الانتقالي القتل، والاعتداء البدني ضد المحتجين السلميين في العديد من المدن السودانية بشكل واسع خلال عام 2019.وحسب تقديرات لجنة اطباء السودان المركزية فقد قتل أكثر من 246 متظاهرا، وأصيب نحو 1353 شخصاً، في أرجاء البلاد منذ اندلاع الاحتجاجات في 19 ديسمبر الماضي.وكان لفض الاعتصام أمام مقر قيادة القوات المسلحة في الخرطوم يوم 3 يونيو، النصيب الأكبر في عدد الضحايا حيث يقدر عدد القتلى بـ 127 شخصاً، بينهم ما لا يقل عن 19 طفلا، وفقا لتقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) ، ولجنة أطباء السودان المركزية.كما قتل خمسة متظاهرين، بينهم ثلاثة تلاميذ، على الأقل بالرصاص يوم 29 يوليو، عندما فضت قوات الأمن احتجاجا نظمه تلاميذ المدارس الثانوية على نقص الوقود والخبز بمدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان (تبعد نحو 400 كيلومتر جنوب غربي الخرطوم).
ثالثاً: القضايا الأكثر تأثيرا في حرية التعبير
شهدت المحاكم السودانية عدد من قضايا الشأن العام خلال عام 2019، وتأتي في مقدمة تلك القضايا محاكمة الرئيس السوداني عمر البشير، بتهم تتعلق بـ”حيازة عملة أجنبية، والفساد، وتلقي هدايا بشكل غير قانوني”، وبدأت أولى جلسات المحاكمة يوم 19 أغسطس، كما شهد نفس العام، محاكمة 9 نساء شاركن في المظاهرات، حيث قضت محكمة طوارئ الامتداد بالخرطوم، يوم السبت 9 مارس، يجلد التسع نساء، عشرين جلدة لكل منهن والحبس لمدة شهر على خلفية مشاركتهن في التظاهرات التي جرت في العاصمة السودانية يوم 7 مارس، ولكن القاضي أوقف تنفيذ حكم الجلد على النساء التسع تحت ضغط واعتراض المحامين لحين صدور قرار الاستئناف، وفي 12 مارس أمرت محكمة الاستئناف بالإفراج الفوري عنهن، قائلة إنهن قضين في السجن فترة كافية.
وشكلت السلطات السودانية محاكم طوارئ خاصة لمحاكمة المتظاهرين المتهمين بمخالفة حالة الطوارئ التي فرضها عمر البشير
كما لعبت محاكمة المتظاهرين من خلال محاكم الطوارئ التي شكلتها السلطات السودانية تنفيذاً لقرار عمر البشير دوراً فعالا في تأجيج مشاعر الغضب عند المتظاهرين، فعلى سبيل المثال قضت محكمة طوارئ سودانية يوم 24 مارس، بسجن ستة متظاهرين لمدة ستة أشهر بتهمة خرق حالة الطوارئ المفروضة في البلاد.
رابعا: الاتهامات الأكثر شيوعاً ضد حرية التعبير
واجه المواطنون السودانيون عدد من اﻻتهامات التي تهدف إلى قمع حرية الرأي والتعبير خلال عام 2019، من تلك اﻻتهامات، تهمة الشغب والإزعاج العام والإخلال بالسلامة والأمن، وتهمة خرق حالة الطوارئ المفروضة في البلاد، وتهمة الإساءة إلى المجلس العسكري.
خامسا: الضحايا
ضمت قائمة ضحايا انتهاكات حرية الرأي والتعبير طيفا واسعا من الضحايا، نساء ورجال، أطفال وكبار سن، كما ضمت سودانيين وأجانب. فعلى سبيل المثال ضمت هذه القائمة المدافعة الحقوقية منال الأول، والصحفية الفرنسية غينايللونوار، وعثمان ميرغني رئيس تحرير صحيفة التيار، وﻫﺒﺔﻣﻜﺎﻭﻱﺍﻟﻤﺬﻳﻌﺔﺑﻘﺴﻢﺍﻷﺧﺒﺎﺭﻓﻲﺍﻹﺫﺍﻋﺔﺍﻟﻘﻮﻣﻴﺔ، والصحفية سهير عبد الرحيم، والصحفية درة قمبو.
وضمت قائمة الضحايا أيضا ياسر عرمان نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، والقياديين في حركة الاحتجاج محمد، واسماعيل جلاب، والشاب سعد محمد احمد الذي توفى متأثراً بجراحه جراء مهاجمة القوات الحكومية بالرصاص الحي والغاز المسيل للدموع والقنابل المطاطية لمعتصمين بمدينة نيالا، جنوب دارفور، والشاب أحمد بكري خير الله، الذي توفي يوم 17 مايو، متأثراً بإصابته بثلاثة أعيرة نارية، في مسيرة السابع من أبريل، كما ضمت القائمة مريم الصادق المهدي، نائبة رئيس حزب الأمة القومي.