مقدمة:
تعبير الحسبة قديما كان يطلق على تلك الوظيفة التي كان يشغلها شخص تنوب عنه الآن أجهزة الدولة، مثل جهاز حماية المستهلك. فهو ذلك الشخص الذي يراقب الأسواق ليتأكد من جودة البضاعة، والتزام التجار بالأسعار المحددة.
ويعتقد البعض، بل ويفتي البعض الآخر، أن الحسبة، مستمدة من فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، التي جاءت في الإسلام، إلا أن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، كانت قد أصدرت دراسة مطولة، أعدها الكاتب حلمي النمنم، عن الحسبة وتاريخها القديم والحديث وما آلت إليه حتى العام الذي كتبت فيه سنة 2012. ونكتشف، كما جاء في الدراسة، أن الحسبة لم يعرفها نبي الإسلام أو خلفائه الراشدين، وأنها منصب مستعار من الدولة البيزنطية، شأنها في ذلك شأن الكثير من نظم الإدارة التي استعارها العرب من البيزنطيين والفرس، حيث أنهم لم يكن لهم خبرة سابقة في إدارة الدول، وكان عليهم، عقب الغزوات العربية، اللجوء لنظم إدارة مستمدة من الدول المحيطة الأكثر خبرة وحداثة.
ومثل كل الوظائف والمهن البائدة، تلاشت مهنة الحسبة رويدا حتى حلت أجهزة الدولة محلها تماما.
ظهر تعبير “الحسبة” مرة أخرى في بداية القرن الواحد والعشرين ليصف أولئك الذين يضعون الناس تحت المجهر ويلاحقوهم قضائيا ليصادروا على حريتهم في الفكر والتعبير.
ومن جورجي زيدان وطه حسين وحتى نصر حامد أبو زيد، كان ضحايا الملاحقة الفكرية دوما يتم تشويههم وملاحقتهم، وربما قطع أرزاقهم أو تفريقهم عن زوجاتهم، تحت ذريعة الدين.
إلا أن المحتسبين الجدد، والذين ظهروا بعد 2013، لهم سمات جديدة إضافية. فهم يزايدون بالوطنية، والأخلاق، والدين أيضا، يلاحقون من يتحدث بشكل يخالف آرائهم، حتى لو كانت مطربة تمزح على أحد المسارح أثناء حفلتها. يفسرون الوطنية كما يرغبون، ويلاحقون الناس، حتى من مؤيدي النظام، وفقا لتفسيراتهم.
من هم المحتسبون الجدد وكيف ظهروا ؟
سك تعبير “المحتسبون” كصفة سلبية، يوصف بها المحامون الذين يقدمون بلاغات ويرفعون قضايا، ضد ضحايا لم يقترفوا جرما سوى أن عبروا عن أرائهم.
إذن، فمن هم هؤلاء المحامون؟
ينتمي أغلب المحامين الذين يلاحقون الناس ويحاصرون حرية التعبير عبر تقديم البلاغات، التي “كثيرا، وليس دائما” ما يتم حفظها، للنيابة، إلى فئة من ثلاث فئات:
النوع الأول: وهو راغب شهرة، قد يكون محام، لديه مكتب، قد يريد أن يرفع أجره، ولأنه غالبا لم يربح قضية تاريخية، أو يناضل من أجل قضية أثارت الرأي العام، فما أسهل أن يكتسب شهرة عبر مراقبة الناس على شبكات التواصل الاجتماعي أو التلفزيون أو الصحف أو المواقع أو حتى فيديوهات اليوتيوب، واصطياد أي هفوة أو كلمة لشخص ما، حبذا لو أنه شخصية عامة، وتقديم بلاغ في هذه الشخصية، واصفا إياه بإنه يهدد الأمن القومي، أو يهدم ثوابت الأمة، أو يروج للإلحاد، أو يسبب الفزع للمواطنين.
بعد تقديم هذا البلاغ للنيابة العامة، يقوم المحامي بإرسال صورة منه إلى الصحف والمواقع والقنوات الفضائية، ومن ثم، يقوم الصحفيون بالاتصال به. وفجأة، يتحول هذا المحامي إلى محام شهير، تستضيفه الفضائيات، وتكتب عنه الصحف، مما يساعده على استقبال المزيد من الموكلين، ورفع أتعابه.
النوع الثاني: وهو شخص إما يرغب في التقرب للسلطة، أو أنه بالفعل مقرب للسلطات التي توعز إليه بتقديم بلاغات لمحاصرة معارضيها. حيث أن السلطة أحيانا لا ترغب في مواجهة مباشرة مع معارضيها، خاصة لو إن هذا المعارض معروف داخل مصر وخارجها، مما يدفعها إلى الإيعاز لأحد المحامين الذين يعملون لدى أجهزتها، لمواجهته نيابة عنها. حتى تكون الرسالة: ليس لنا شأن بالأمر، ولكن ما يقوم به هذا الشخص قد أثار المواطنين الشرفاء وألبهم ضده، مما دفعهم لمواجهته.
إذن، فهذا النوع من محامين الحسبة، ما هو إلا شخص ينتمي إلى فئة “المواطنين الشرفاء” يمارسون دورهم ، إلا أنها هذه المرة سلطة أمام القضاء، وليست في الساحات والطرقات.
النوع الثالث: وهم أشخاص مؤمنون حقا بما يقومون به، يدافعون عن وجة نظرهم بالطريقة الخاطئة، فهم يدافعون عن رأيهم عبر مصادرة رأي الآخر، والتعامل مع الآخر بوصفه يجر الشرور على المجتمع، ويعتبر نفسه أنه هو وحده الذي يحمل الخير للوطن.
2-هل هناك “حسبة” في القانون المصري؟
نظريا، يكفل الدستور المصري حرية الرأي والتعبير والاعتقاد لكل المواطنين على حد سواء على النحو الآتي:
مادة 64: حرية الاعتقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون.
مادة 65:حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبيرعن رأيه بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر.
مادة 66: حرية البحث العلمى مكفولة، وتلتزم الدولة برعاية الباحثين والمخترعين وحماية ابتكاراتهم والعمل على تطبيقها.
مادة 67: حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن فى أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها. وللمحكمة في هذه الأحوال إلزام المحكوم عليه بتعويض جزائي للمضرور من الجريمة، إضافة إلي التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحقه من أضرار منها، وذلك كله وفقاً للقانون.
أما القانون المصري، فلا ينص على الحسبة أو “حق الحسبة”، على العكس تماما، حيث يوضح قانون المرافعات المدنيـة والتجارية رقم (13) لسنة 1986 المعدل قانون رقم 13 لسنة 1986 مادة 3 ( مستبدلة بموجب القانون رقم 81 لسنة 1996 ) أنه لا تقبل أى دعوى أو دفع استنادا لأحكام هذا القانون أو أى قانون آخر . لا يكون لصاحبة فيها مصلحة شخصية ومباشرة وقائمة يقرها القانون .
ومع ذلك تكفى المصلحة المحتملة إذا كان الغرض من الطلب الاحتياط لدفع ضرر محدق أو الاستيثاق لحق يخشى زوال دليله عند النزاع فيه . وتقضى المحكمة من تلقاء نفسها ، فى أى حالة تكون عليها الدعوى ، بعدم القبول فى حالة عدم توافر الشروط المنصوص عليها فى الفقرتين السابقتين . ويجوز للمحكمة عند الحكم بعدم قبول الدعوى لانتفاء شرط المصلحة أن تحكم على المدعى بغرامة إجرائية لا تزيد عن خمسمائة جنية إذا تبينت أن المدعى قد أساء استعمال حقه فى التقاضي.
لذلك، نجد أن القضايا والدعاوى التي تصادر على حرية الفكر والتعبير تتمثل في قيام المحامي بتقديم بلاغات ضد المواطنين. وهذا البلاغ هو بمثابة تنبيه للنيابة، والتي تنوب عن الشعب، بإن هناك خطر أو تهديد أو هدم للثوابت، والنيابة عليها إما أن تحرك البلاغ أو تحفظه، ولكن ، ورغم حفظ الكثير من هذه البلاغات ، فإن الهدف منه – تخويف صاحب الرأي- قد حدث.
نماذج لبعض محامين الحسبة:
هناك بعض الأسماء من المحامين التي اشتهرت بقضايا الحسبة، ويكفي أن تضع أسماءهم على محرك البحث لتواجه بوابل من البلاغات التي قدموها ضد الجميع في كل الاتجاهات، وأحيانا بشكل عشوائي.
أولا: أيمن محفوظ:
الأستاذ أيمن محفوظ أحد المحامين الذين لا يكفون عن تقديم البلاغات، بدءا من بلاغ ضد فنانة كانت تسجل رسالة صوتية لصديقتها ونشرتها على العام بالخطأ مرورا ببلاغ يطالب فيه بمصادرة مكتبة الفنان الراحل حسن كامي، والتي كانت محل نزاع بين محامي الفنان الراحل وأسرته، وبلاغ ضد أحد أئمة المساجد، بتهمة الإساءة للإسلام، أو حزب مستقبل وطن بادعاء أنه استغل اسم الرئيس عبد الفتاح السيسي في الاستفتاء على الدستور، ووزع تحت اسمه كرتونات تموين على الناخبين
هذا بخلاف ملاحقته للفنانين عمرو واكد وخالد أبو النجا
حيث اتهم المحامي أيمن محفوظ الفنان عمرو واكد بازدراء الدين الإسلامي على إثر مطالبة الأخير بإلغاء عقوبة الإعدام، الأمر الذي أثار حفيظة العديد من الحقوقيين وأصحاب الرأي، إذ أن الأستاذ أيمن محفوظ لم يكتف باتهام الفنان عمرو واكد بازدراء الدين الإسلامي، ولكنه بهذا البلاغ، يتهم كل من له رأي مخالف لرأيه بنفس التهمة، فالمطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام مطلب حقوقي عالمي، وليس له أدنى علاقة بازدراء أي ديانة بما فيها الديانة الإسلامية. كما تقدم ببلاغ للنائب العام ضد الفنان خالد أبو النجا قال فيه أن الفنان يروج للمثلية الجنسية “وظهور تغريدات مشبوهة علي مواقع التواصل الاجتماعي تمثل إشارات تحدث بعدها كوارث علي الدولة، بالإضافة لعقد اجتماع مع عمرو واكد فى الكونجرس الأمريكي، وذلك دون صفة له للحديث باسم الشعب.”
وحين نستعرض البلاغات التي يقدمها الأستاذ أيمن محفوظ نجدها متشعبة وليس لها خط واضح، فهو تارة يتقدم ببلاغات تحمل رقابة أخلاقية، وتارة دينية، وتارة سياسية موالية للنظام الحاكم في مصر.
وهناك بلاغات ذات طابع غريب، ربما ليس لها تصنيف، فمثلا، تقدم الأستاذ أيمن محفوظ ببلاغ ضد الفنان رامز جلال، لإنه يقوم بتقديم برنامجا رآه المحامي “سخيفا”
على مدى سنوات، قام الفنان رامز جلال بتقديم برنامج “مقالب” في رمضان، ويبدو أن البرنامج لم يرق للأستاذ أيمن محفوظ، وبدلا من نقد الفنان رامز جلال أو القناة التي تعرض هذا البرنامج، قام الأستاذ أيمن محفوظ بتقديم بلاغ في الفنان رامز جلال، وقدم شكوى للمجلس الأعلى للصحافة، والذي بدوره وعد بدراسة الموضوع لوقف بث برنامج المقالب السخيف الذي يضايق الأستاذ محفوظ.
ويبدو من مسيرة الأستاذ أيمن محفوظ المهنية أنه من الصنف الأول المشار إليه أعلاه، ألا وهو الأشخاص الراغبين في الشهرة، فهو لديه ولع بالظهور في الإعلام والحديث عن أي قضايا يمكن أن تلفت إليه الانتباه، مثل الحديث عن أداء المنتخب المصري السيء في كأس العالم، إلا أن الأستاذ أيمن محفوظ لم يتقدم ببلاغ ضد المنتخب بعد.
ثانيا: سمير صبري (أبو البلاغات):
“أبو البلاغات” ليس تعبيرا ساخرا من جانبنا وإنما هو اللقب الذي أطلقه على نفسه الدكتور سمير صبري على صفحته الرسمية وهو يستعرض البلاغات التي قدمها في 2015.
وكما يبدو من اللقب الذي أطلقه على نفسه الدكتور سمير صبري، فإن تغطية كم البلاغات التي تقدم بها سيادته أمر صعب جدا ، لغزارتها . لذلك فإننا سنورد نماذج من تلك البلاغات، وسيكون مصدرنا الرئيسي صفحة الدكتور الرسمية إلى جانب بعض أخبار الصحف.
فما بين بلاغات ضد المخرج والنائب خالد يوسف لسحب عضويته، واتهامه بالتحرش، إلى بلاغات ضد الحركة السلفية، وبلاغات ضد عبد المنعم أبو الفتوح، حتى بلغ الأمر أن تقدم الدكتور سمير صبري ببلاغ لحل المجلس القومي لحقوق الإنسان، حيث اتهم الدكتور سمير صبري المجلس بإنه يهدر عقوبة القصاص.
هذا بخلاف بلاغاته ضد هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، والمرحوم الدكتور أحمد كمال أبو المجد حيث اتهمه صبري بالتواصل مع جماعة الأخوان المحظورة، كما تقدم ببلاغ ضد الدكتور أسامة الغزالي حرب على إثر قيام أحد المواقع المجهولة بنشر وثيقة مزيفة تم نسبها زورا إلى ويكيليكس، وورد في هذه الوثيقة أن السفارة الأمريكية قامت بتمويل عدد من النشطاء ورجال الدولة ومن بينهم الدكتور أسامة الغزالي حرب، ولم يتكلف الدكتور سمير صبري عناء البحث والتأكد من صحة الوثيقة، أو حتى الحصول على نسختها الأصلية باللغة الإنجليزية. كما اتهم الدكتور سمير صبري، في بلاغ له قدمه إلى النائب العام، عائلة ساويرس بتمويل جماعة الأخوان المسلمين ، واتهم أحد مشايخ الطرق الصوفية – صالح أبو خليل، شيخ الطريقة الخليلية بالشرقية – بازدراء الدين الإسلامي وادعاء النبوة. كل ذلك وأكثر هو مجرد حصاد سنة واحدة، وهي عام 2015.
وبمنتهى الصدق مع النفس، اعترف الدكتور سمير صبري بإنه مناهض لحرية الرأي والتعبير، معللا ذلك بإنه يحاول حماية البلاد من الفوضى.
كما أعلن الدكتور سمير صبري، الذي أصبح حديث الإعلام كنجم البلاغات الأول، عن ندمه لسحبه البلاغ الذي كان قدمه في الفنانة رانيا يوسف، على إثر ارتدائها ثوبا اعتبره المحامي فاضحا، مؤكدا أنه سحب البلاغ استجابة لعواطفه، لكن يبدو أن الفنانة لم ترتدع ولم تقدر موقفه المتسامي معها، فقامت بارتداء العديد من الأزياء “الفاضحة” بعد سحبه البلاغ.
لم يتم تحريك كل البلاغات التي قدمها الدكتور سمير صبري، ربما بسبب استحالة ذلك عمليا، إلا أن القضية المفتاحية، والتي تم تحريكها وإصدار حكم بشأنها، هي قضية ” مزاعم الفعل الفاضح” التي تم تحريكها ضد المحامي الحقوقي والمرشح الرئاسي السابق خالد علي، والذي كان قد ربح القضية التي كان رفعها، مع مجموعة من المحامين، لإثبات مصرية جزيرتي تيران وصنافير، والحيلولة دون التنازل عنهما للسعودية، أو على أقل تقدير، إثبات عدم قانونية هذا التنازل. فما كان من الدكتور سمير صبري إلا أن تقدم ببلاغ ضد خالد علي، متهما إياه بالإتيان بفعل فاضح في الطريق العام على إثر صورة – لم يتم التأكد من صحتها – نشرت للمحامي خالد علي عقب صدور الحكم بمصرية الجزيرتين. وظل هذا البلاغ سيفا مسلطا على رقبة المحامي خالد علي، حتى تم تحريك القضية وإصدار حكم ضده بالسجن ثلاثة أشهر مع إيقاف التنفيذ.
وبالرغم من الاستهداف الواضح للمحامي خالد علي، المعارض للنظام والذي ربح جولات في ساحات المحاكم ضده، وكان أحد المرشحين المنافسين للرئيس عبد الفتاح السيسي، ثم قام بالانسحاب من الانتخابات، مما أثار النظام، إلا أن المحامي سمير صبري أكد في تصريح له أن بلاغه ضد خالد علي ليس مدفوعا.
إلا أن هناك بعض التساؤلات المشروعة فيما يتعلق بالدكتور سمير صبري محامي البلاغات. فالمحامي، وهو رجل مخضرم في القانون، يقول انه حاصل على درجة الدكتوراه، يخالف القانون من حيث أنه يرفع قضايا ضد بعض الشخصيات وهو غير ذو صفة، ويتم تحريك هذه القضايا بالرغم من عدم صفة مقدم البلاغ، ومع ذلك، فهو يعود ليخالف القانون مرة أخرى، ويرتكب فعل السب والقذف بحق خصومه، ولا يتم محاسبته مطلقا. على سبيل المثال، وصف الدكتور سمير صبري الدكتور سعد الدين إبراهيم بإنه خائن ويخدم موزة، وهي اتهامات خطيرة تقع تحت بند السب والقذف في القانون المصري خاصة أنه لم يقدم دليلا على كلامه، إلا أن أحدا لا يحاسبه على هذه المخالفات.
لا أحد يستطيع أن يجزم تحديدا ما الفائدة التي تعود على محامين البلاغات، لكن يبدو من الصراع الدائر رحاه بين محامي البلاغات الأول الدكتور سمير صبري ومحامي البلاغات الناشئ الأستاذ أيمن محفوظ أن هناك مصلحة ما أو فائدة كبيرة تعود على محامين البلاغات، مما يدفعهم للتنافس في هذا المجال.
حيث قام المحامي أيمن محفوظ بتقديم بلاغ في الدكتور سمير صبري يتهمه بتزوير شهادة الدكتوراه.
ثالثا: أيمن محروس
بالرغم من أن المحامي أيمن محروس مازال وجه جديد في عالم بلاغات الحسبة ، إلا أن الإعلام سرعان ما سلط عليه الضوء، حيث قام برنامج “ذا إنسايدر” المذاع على فضائية دبي، باستضافته ليدلي بدلوه بشأن البلاغ الذي قدمه ضد الفنان المصري محمد رمضان. مما يثبت الفرضية التي طرحناها في مقدمة التقرير من أن تقديم البلاغات في شخصيات شهيرة قد تكون أحد الوسائل السهلة والسريعة لتحقيق الشهرة، وما قد يترتب عليها من مكاسب مادية غير مباشرة.
وكان المحامي أيمن محروس قد قدم بلاغا ضد الفنان المصري محمد رمضان عقب ظهوره في إحدى الحفلات وصعوده على المسرح بسيارة فارهة وحوله درجات نارية، ثم قام بخلع قميصه. وعبر أيمن محروس عن تضرره كمواطن مصري معلقا: “إيه الإبداع يعني في إنه يغني عريان؟”
رابعا: محمد حامد سالم:
محام ذو باع طويل في البلاغات، متخصص في الأديان والسياسة والألبان وكرة القدم.
ففي مجال كرة القدم، تقدم المحامي محمد حامد سالم ببلاغ ضد رئيس مجلس إدارة النادي الأهلي، الكابتن محمود الخطيب، يتهمه بالكسب غير المشروع وتلقي أموالا من آل شيخ.
إلا أن هذا البلاغ لم يتم تحريكه ، ولا ننسى أن الأطراف المتهمة مقربة من الدولة.
وفي مجال الألبان، تقدم الأستاذ محمد حامد سالم ببلاغ ضد شركة جهينة، متهما إياها ببيع لبن متعفن.
إلا أن هذه الأزمة مرت بسلام هي الأخرى.
كما أن الأستاذ سالم قد أدلى بدلوه في المجال الفني، وقدم بلاغا في مسلسل “أيوب”متهما المسلسل بالتحريض على قتل الأزواج.
أما في مجال السياسة، فللأستاذ محمد حامد سالم صولات وجولات، وقد تم تحريك الكثير من بلاغاته المشكورة من قبل النظام المصري:
حيث أمر النائب العام نبيل صادق بإحالة البلاغ المقدم من الأستاذ سالم ضد الفريق أحمد شفيق، متهما إياه بإثارة الرأي العام، إلى نيابة أمن الدولة العليا.
ويبدو أن المحامي محمد حامد سالم يراقب رئيس حزب الكرامة والمرشح الرئاسي السابق، حمدين صباحي، عن كثب، إذ قام بتقديم عدة بلاغات ضده، ومنها:
بلاغ يتهم فيه حمدين صباحي بالتحريض على الدولة والمطالبة بإيداعه مستشفى الأمراض العقلية.
كما أحال النائب العام بلاغ مقدم من محمد حامد سالم ضد الحركة المدنية ومنها حمدين صباحي إلى نيابة نيابة شمال الجيزة.
كما قدم المحامي المذكور بلاغا ضد المهندس ممدوح حمزة يتهمه فيه بالإساءة لمؤسسات الدولة على إثر فيديو كان نشره المهندس ممدوح حمزة على موقع اليوتيوب.
هذا بخلاف مطالبته للتحقيق مع العاملين في كل من البي بي سي والمصري اليوم بتهمة الإساءة لسمعة مصر في بلاغ تقدم به ضد المؤسستين.
وأخيرا وليس آخرا، تقدم المحامي المذكور ببلاغ ضد نائب مجلس الشعب أحمد طنطاوي، لإنه قال بإنه لا يحب الرئيس ولا يثق به، حيث اتهمه بإهانة السيد الرئيس.
على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك، يصف المحامي محمد حامد سالم نفسه بإنه “محام ومفكر سياسي”،
كما يسرد إنجازاته كما هو وارد على صفحته:
“مناضل ثوري مصري مستقل لا ينتمي لأي فصيل أو تيار سياسي
لمعرفة المزيد من الإنجازات، مثل اتهامه للسفير الجليل معصوم مرزوق بالخلل العقلي ومطالبته بإحالته لمستشفى الأمراض العقلية، وسعيه لوقف الضباط الملتحين، وبلاغاته ضد بعض رسوم الكاريكاتير وغيرها من الإنجازات التي لا تعد ولا تحصى، برجاء زيارة صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، فلا يتسع المجال لحصر كل بلاغات المحامي المذكور في هذا التقرير.
خامسا: طارق محمود:
مع رواج سوق البلاغات، تتسع المنافسة، ويضطر محامو البلاغات للمزايدة على بعضهم البعض في إثبات “الوطنية” و”التدين” و”الأخلاقية” عبر البلاغات المقدمة ضد بعض الضحايا الذي أوقعهم حظهم العثر في هذه الحقبة الزمنية التي انتشرت فيها ثقافة “بلاغ لكل مواطن”
فنجد المحامي طارق محمود يتقدم ببلاغ ضد المنظمات الحقوقية بتهمة نشر أخبار كاذبة، وهم: جمال عيد المدير التنفيذي للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، ومحمد زارع مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومحمد لطفي المدير التنفيذي للمنظمة المصرية للحقوق والحريات، وجاسر عبد الرازق المدير التنفيذي للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
إلا أن الملحوظ، أن هناك من المحامين من يتقدم ببلاغات ضد أشخاص لا يطالهم القانون المصري، مثل بلاغات ضد أيمن نور المقيم خارج مصر، أو معتز مطر المقيم بتركيا أو بلاغات ضد هاربين مثل محمود الشرابي ومحمد الناصر.
ويبدو أن عمرو واكد كان في الفترة الماضية كبش فداء جيد لإثبات الوطنية، فقد تقدم بحقه عدة بلاغات، وكان ضمن المتقدمين ضده المحامي طارق محمود.
هذا بخلاف بلاغ المحامي طارق محمود ضد هيثم الحريري واتهامه بالاستيلاء على المال العام.
سادسا : محمد رمضان عبد المنعم:
وجه جديد ناشئ في عالم البلاغات، قام بتقديم بلاغ في النائب هيثم الحريري يتهمه بالجمع بين راتبين، ويدعي تضرره كمواطن مصري من هذا.
الجدير بالذكر أن هذا البلاغ كان ضمن بلاغات أخرى وحملات تشويه طالت عددا من نواب مجلس الشعب الذين أعلنوا عن رفضهم للتعديلات الدستورية.
4- الحسبة وحرية الرأي:
لا شك أن التفكير الإنساني يحتاج مجالا واسع للحرية، كي ينتج مزيدا من الإبداع في شتى المجالات سواء العلمية أو الفكرية أو الفنية أو الدينية أو السياسية، وفرض رقابة على الفكري يؤخر الأمم، كما أن ليس كل من يبدع على استعداد لخوض حرب قانونية من أجل الدفاع عن فكره، فهناك نموذج أوسكار وايلد الذي قبل بالمثول أمام المحكمة، وهناك نموذج جاليليو الذي تراجع عن فكره الإبداعي في مواجهة سلطة الكنيسة والإدانة القانونية والاجتماعية. ولا يمكن لوم المبدع الذي يقرر التراجع عن فكره وعدم خوض معركة، فذلك يعد ضربا من ضروب لوم الضحية، فالملام الحقيقي هو الذي ينصب أفخاخا قانونية واجتماعية ضد كل من يحاول أن يبدع أو يفكر خارج الصندوق.
وإن كانت مجموعة المحتسبين الجدد يدعون لأنفسهم احتكار الوطنية والغيرة على مصالح الأمة، فهم في الواقع يؤسسون إلى جمود الفكر وإرهاب المبدعين والعلماء والمفكرين الذين تقوم على أكتافهم الحضارة والتقدم، وإن شعور المرء بإن عليه عين مراقبة يشل تفكيره ويحول دون مساهمته في نهضة بلاده، ولا توجد بلد على كوكب الأرض تحقق تقدما وهي تراقب الفكر والإبداع وحرية التعبير، وتعاقب عليهم.
5- متى تزدهر الحسبة:
تزدهر الحسبة، أو محاكم التفتيش الفكرية، عادة ، تحت حكم الديكتاتوريات، سواء كانت دينية كسلطة الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى، أو عسكرية كما يحدث الآن في دول العالم الثالث. ذلك لإن هناك دوما فئة منتفعين تحت حكم الديكتاتوريات، يرغبون في التقرب من السلطة على حساب الآخرين، ويسعون لإثبات ولائهم لتلك السلطة ، أو تجنب بطشها على أقل تقدير، عبر التقريب لها ومحاولة ارضائها أو خدمتها ، وقد يكون عبر التزلف والتملق وكذلك عبر العمل هيئة أمر بما تطلبه السلطة ضد كل من يناوئها أو يفكر خارج المنظومة التي أرستها.
هم يدعون أنهم يفعلون ذلك من منطلق الوطنية، ومن خلال مفهوم للوطنية أو التدين أو الأخلاقية، أسسته السلطة الديكتاتورية، واعتبرت أن مفهومها هذا هو المفهوم الأوحد والوحيد الصحيح، فهي تمتلك الحق وما دونها باطل، وكثير من هؤلاء المحتسبين يمالئونها من أجل تحقيق مكاسب عاجلة لأنفسهم دون الالتفات لمستقبل الوطن ومصالحه.
6- توصيات:
إذا كانت الدولة تسعى لأن تصبح مصر “أم الدنيا وقد الدنيا” كما تردد دوما، عليها فتح المجال العام لكل ما هو مختلف ومبدع، وفتح باب الحريات الفكرية والتعبيرية على مصراعيه دون رقابة أو محاسبة، فأن يخطئ صاحب فكر خير وأنفع للوطن من أن يمنع صاحب فكر آخر من التعبير عن أفكاره ومقترحاته التي قد تنفع الوطن. وبث الخوف في نفوس الناس ليس من صالح الوطن. لذلك،
نقترح التوصيات الآتية:
– تمكين أصحاب الفكر، أيا كانوا ومن أي اتجاه وتحت أي مسمى، من التعبير عن أنفسهم بحرية كاملة، ودون رقابة أو تهديد.
– الرد على الفكر بالفكر، وعلى الكلام بالكلام، وعلى الإبداع بالإبداع، لا بالبلاغات والتحقيقات والقضايا في ساحات المحاكم.
– حصر دور ساحات المحاكم للنظر في الجرائم الفعلية، وحظر النظر في القضايا الفكرية أمام القضاء.
– إغلاق باب البلاغات المفتوح على مصراعيه أمام المنتفعين والمتزلفين وعدم قبول النظر في تلك البلاغات إلا بعد التوثق من صفة ومصلحة صاحب البلاغ، حتى لا تضع المشكو ضده تحت ضغط الخوف، وحتى لا تشكل تهديدا ضاغطا يمكن استخدامه في أي وقت.
– إذا كنا في الشبكة العربية لا نقبل قضايا السب والقذف بالرغم من عدم تشجيعنا لاستخدام الألفاظ البذيئة أو السباب في الخصومة، فإننا نطالب بمنح حق الرد لكل أولئك الذين يهاجمهم إعلام السلطة بأقذع السباب، ومع ذلك لا يتخذ أي إجراء قانوني ضد هؤلاء الإعلاميين الذين يسبون المعارضين ويتهمونهم في أعراضهم وذممهم ووطنيتهم.
خاتمة:
إن حرية الرأي والتعبير والتفكير والإبداع ليست رفاهية، ولا يجدر الإشارة إلى أن المواطنين في مصر و العالم الثالث “صنف من الناس” لا يجيد استخدام الحرية ولا يستحق حقوق الإنسان، وأن “ثقافتهم تختلف عن هؤلاء الذين يتمتعون بالحرية وحقوق الإنسان في أوروبا ودول العالم الأول”. هذا خطاب تمييزي، لا يليق أن يتم استخدامه من قادة دول العالم الثالث، ولا يجدر بهؤلاء القادة أن ينظروا نظرة دونية للشعوب التي يحكمونها حتى أنهم يصرحون بإن تلك الشعوب التي ترزح تحت حكمهم لا تستحق الحرية ولا حقوق الإنسان لإنها “مختلفة”، من أجل تبرير القمع والديكتاتورية. ونحن نتساءل في هذه الورقة عن طبيعة “الاختلاف” الواقع بين شعوب دول العالم الثالث ودول العالم الأول حتى يحول شعوب دول العالم الثالث إلى نصف إنسان لا يستحق الحقوق الكاملة التي يتمتع بها شعوب دول العالم الأول. هل هو اختلاف في اللون أم الجنس أم اللغة أم الثقافة؟ وهل هناك نوع من الاختلاف بين البشر يسوغ سلبهم حقوقهم الأولية كإنسان؟ وهل هذا الاختلاف يسلب الناس إنسانيتهم؟
هناك اختلاف حقا، لكن الاختلاف ليس بين طبائع البشر أو مدى إنسانيتهم أو حقهم في التمتع بكامل حقوقهم، فالاختلاف الحقيقي هو بين النظم الحاكمة، ومدى سيادة القانون واحترام الدولة لإنسانية شعوبها، وهذا هو الاختلاف الحقيقي الذي قد يجعل المواطن في دول العالم الثالث أكثر تخلفا ورجعية، بينما لو أتيحت له الفرصة للهجرة إلى دولة يتمتع فيها بكامل حقوقه، يتحول نفس الإنسان إلى شخص آخر، يحترم الآخرين وحقوقهم وحريتهم.
لذلك، فنحن نرى، وبعد استقصاء المعلومات في هذه الورقة، أن المواطنين في بلادنا يستحقون التمتع بكامل حريتهم وحقوقهم ليتمكنوا من تحقيق المزيد من التقدم والرفاهية لبلادهم، ولا يضطرون للهجرة إلى بلاد أخرى تمنحهم المزيد من الحرية والشعور بالأمان.